البابا فرنسيس – رسالة الصوم

 

البابا فرنسيس


البابا فرنسيس أصدر رسالة الصّوم، فماذا يقول؟

الفاتيكان نيوز

فبراير 2020

نقلاً عن موقع يسوعنا

صدرت ظهرًا رسالة البابا فرنسيس لمناسبة زمن الصّوم تحت عنوان “فنَسأَلُكُم بِاسمِ المسيح أَن تَدَعوا الله يُصالِحُكُم”، وجاء فيها:




“أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، في هذا العام أيضًا، يمنحنا الرّبّ وقتًا مناسبًا لنعدّ أنفسنا للاحتفال بقلب متجدّد بالسّرّ العظيم، سرّ موت يسوع وقيامته، محور الحياة المسيحيّة الشّخصيّة والجماعيّة. يجب أن نعود إلى هذا السّرّ بشكل مستمرّ، بالعقل والقلب. في الواقع، لا يتوقّف هذا السّرّ عن النّموّ فينا كلّما سمحنا لأنفسنا بالتّفاعل مع ديناميكيّته الرّوحيّة وقبِلْناه قَبولًا حرًّا وسخيًّا.

ينبع الفرح المسيحيّ من سماع وقبول البشرى، بشرى موت يسوع وقيامته: الكرازة (kerygma). إنّها تلخّص سرّ حبّ “حقيقيّ وأصيل وملموس يقدِّم لنا علاقة كاملة في حوار صادق ومثمر” (الإرشاد الرّسوليّ المسيح يحيا، (117 كلّ من يؤمن بهذه البشرى يرفض الكذبة الّتي تدَّعي بأنّ حياتنا نشأت من أنفسنا، في حين أنّها قد ولدت في الواقع من حبّ الله الآب ومن إرادته بمنْحِنا “الحياة الوافرة” (را. يو 10، 10). أمّا إذا استمعنا إلى الصّوت المخادع “لأبي الكذب” (را. يو 8، 45)، فقد نقع في متاهات اللّامعنى، ونختبر الجحيم هنا على الأرض، كما يشهد على ذلك، مع الأسف، العديد من الأحداث المأساويّة في حياة الإنسان الشّخصيّة والجماعيّة.

أريد في هذا الصّوم الكبير لعام 2020، أن أنقل إلى كلّ مسيحيّ ما قلته سابقًا للشّباب في الإرشاد الرّسوليّ “المسيح يحيا: “أنظر إلى ذراعيّ المسيح المصلوب، واقبل منه الخلاص دائمًا وأبدًا. وعندما تقترّب للاعتراف بخطاياك، آمن بشدّة برحمته الّتي تحرّرك من الذّنب. تأمّل في دمه المهراق بحبّ عظيم، ودعه ينقّيك. فيمكنك هكذا أن تولد من جديد، مرارًا وتكرارًا” (عدد 123). إنّ فصح يسوع المسيح ليس حدثًا من الماضي، إنّما هو، بقوّة الرّوح القدس، آنيٌّ على الدّوام، ويسمح لنا أن نرى وأن نلمس بإيمان جسد المسيح في الكثير من المتألّمين.

من المفيد أن نتأمّل بشكل أعمق في السّرّ الفصحيّ الّذي بفضله نلنا رحمة الله. في الواقع، إنّ خبرة الرّحمة ممكنة فقط في لقاء “وجهٍ لوجه” مع يسوع المسيح المصلوب والقائم من بين الأموات “الَّذي أَحبَّني وجادَ بِنَفْسِه مِن أجْلي” (غلا 2، 20). إنّه حوار من القلب إلى القلب، ومن صديق إلى صديق. وهذا هو السّبب في أنّ الصّلاة مهمّة جدًّا في زمن الصّوم الكبير. فهي، وقبل أن تكون واجبًا، تعبّر عن ضرورة التّجاوب مع محبّة الله، الّتي تسبقنا دائمًا وتَسنُدُنا. في الواقع، يصلّي المسيحيّ في اليقين بأنّ الله يحبّه، بالرّغم من كونه غير مستحقّ. يمكن للصّلاة أن تتّخذ أشكالًا مختلفة، ولكن ما يهمّ فعلاً في نظر الله هو أن تدخل في عمقنا، حتى تخترق صلابة قلبنا، لتعيده دائمًا إليه وإلى مشيئته. في هذا الوقت المناسب، لنسمح لله بأن يقودنا على مثال شعب إسرائيل في الصّحراء (را. هو 2، 16)، حتّى نتمكّن من سماع صوت “العريس”، فنتركه يُدَوِّي في داخلنا بمزيد من العمق والاستعداد. فبقدر ما نسمح لكلمته بأن تؤثّر فينا، سننجح في اختبار رحمته المجّانية لنا. لا ندَعَنَّ إذًا زمن النعمة هذا يمرّ بنا عبثًا، متوهّمين أننا أسياد هذا الزمن، وأسياد أساليب عودتنا إلى الله.
أضاف الحبر الأعظم يقول إن كان الله يمنحنا مجدّدًا وقتًا مناسبًا كي نعود إليه، فلا يجب أن نعتبره أمرًا مفروغًا منه. بل يجب أن تثير فينا هذه الفرصة الجديدة مشاعر الامتنان وأن تهزّنا في خمولنا. على الرّغم من وجود الشّرّ، والمأساويّ أحيانًا، في حياتنا، وحياة الكنيسة والعالم، لكنَّ هذا المجال المفتوح لنا لنقوم بتغيير حاسم في مسار حياتنا يُعَبِّر عن إرادة الله الثابتة في عدم قطع حوار الخلاص معنا. ففي يسوع المصلوب الّذي “جَعَله اللهُ خَطيئَةً مِن أَجْلِنا” (2 قور 5، 21)، بلغت هذه الإرادة الإلهيّة إلى أنْ تضع كلّ ذنوبنا على ابنه، حتّى انقلب “الله على ذاته”، كما قال البابا بندكتس السّادس عشر (الإرشاد الرّسوليّ الله محبّة، 12 إنّ الله في الواقع يحبّ أيضًا أعداءه (را. متى 5، 43- 48).

إنَّ الحوار الّذي يريد الله أن يقيمه مع كلّ إنسان، من خلال السّرّ الفصحيّ، ليس مثل حوار أهل أثينا، الّذين “لم يكن لديهم هواية ممتعة أكثر من التّحدّث أو الاستماع إلى آخر الأخبار” (را. رسل 17، 21). هذا النّوع من الثّرثرة، الّذي يُمليه الفضول الفارغ والسّطحيّ، يميّز “دنيويّة” جميع الأزمنة، ويمكنه في أيّامنا هذه أن يتسلّل أيضًا إلى استخدام مضلّل لوسائل الإعلام.

أن نضع السّرّ الفصحيّ في محور الحياة يعني أن نشعر بالشّفقة على جراح المسيح الحاضرة في العديد من ضحايا الحرب الأبرياء، وانتهاكات حرمة الحياة، من الجنين الّذي لم يولد بعد وصولاً إلى المسنّ، وأشكال العنف المتعدّدة، والكوارث البيئيّة، والتّوزيع غير العادل لخيرات الأرض، والاتّجار بالكائنات البشرية بجميع أشكاله، والعطش الجامح لتحقيق المكاسب، وهو شكل من أشكال عبادة الأصنام.

من المهمّ اليوم أن نذكّر الرّجال والنّساء ذوي الإرادة الصّالحة بتقاسم خيراتهم مع المحتاجين من خلال الصّدقة، كشكل من أشكال المشاركة الشّخصيّة في بناء عالم أكثر إنصافًا. إنّ التّقاسم بمحبّة يجعل الإنسان أكثر إنسانيّة. بينما قد يزيده تكديس الثّروات وحشيّةً، ويغلقه في الأنانية. يمكننا بل ويجب علينا أن نذهب إلى أبعد من ذلك، ونأخذ بعين الاعتبار الأبعاد الهيكليّة للاقتصاد. ولهذا السّبب، دعوت إلى مدينة أسيزي رجالَ اقتصاد شباب ورجال أعمال وصنّاع التّغيير، من السّادس والعشرين وحتّى الثّامن والعشرين من آذار/ مارس من الصّوم الكبير لعام 2020، بهدف المساهمة في تحديد اقتصادٍ أكثر عدلًا وشموليّة من الحالي. وكما كرّر مرارًا تعليمُ الكنيسة، السّياسة هي من أرقى أشكال المحبّة (را. البابا بيو الحادي عشر كلمة البابا إلى مدراء اتّحاد الجامعة الكاثوليكيّة،18 كانون الأوّل/ ديسمبر 1927). كذلك سيكون التّعامل مع الاقتصاد بالرّوح الإنجيليّة نفسها الّتي هي روح التّطويبات.

أطلب من مريم العذراء الكلّيّة القداسة أن تشفع بنا في هذا الصّوم الكبير المقبل، لكي نقبل الدّعوة بأن نسمح لله بأن يصالحنا، ونُثَبِّت نظر قلوبنا على السّرّ الفصحيّ، ونعود إلى حوار منفتح وصادق مع الله. بهذه الطّريقة يمكننا أن نصبح ما يقوله المسيح عن تلاميذه، ملح الأرض ونور العالم (را. متّى 5، 13 – 14)”.